ثم الحكم الشرعي الفرعي : هو الذي لا يتعلق بالخطإ في اعتقاد مقتضاه , ولا في العمل به قدح في الدين , ولا وعيد في الآخرة , كالنية في الوضوء والنكاح بلا ولي ونحوهما .
( والفقيه ) في اصطلاح أهل الشرع ( من عرف جملة غالبة ) أي كثيرة e]ص: 12 ] ( منها ) أي من الأحكام الشرعية الفرعية ( كذلك ) أي بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل , وهي التهيؤ لمعرفتها عن أدلتها التفصيلية . فلا يطلق الفقيه على من عرفها على غير هذه الصفة , كما لا يطلق الفقيه على محدث ولا مفسر , ولا متكلم ولا نحوي ونحوهم . وقيل : الفقيه من له أهلية تامة يعرف الحكم بها إذا شاء مع معرفته جملا كثيرة من الأحكام الفرعية , وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة فخرج بقيد " الأحكام " الذوات والصفات والأفعال , والحكم هو النسبة بين الأفعال والذوات ; إذ كل معلوم إما ألا يكون محتاجا إلى محل يقوم به , فهو الجوهر , كجميع الأجسام . وإما أن يكون محتاجا . فإن كان سببا للتأثير في غيره , فهو الفعل , كالضرب مثلا , وإن لم يكن سببا . فإن كان لنسبة بين الأفعال والذوات , فهو الحكم , وإلا فهو الصفة , كالحمرة والسواد .
وخرج بقيد " الفعل " الذي هو الاستدلال : علم الله سبحانه وتعالى ورسله فيما ليس عن اجتهادهم صلى الله عليهم وسلم ; لجواز اجتهادهم , على ما يأتي في باب الاجتهاد .
وخرج بقيد " الفرعية " الأدلة الأصولية الإجمالية , المستعملة في فن الخلاف , نحو : ثبت الحكم بالمقتضى , وانتفى بوجود النافي . فإن هذه قواعد كلية إجمالية تستعمل في غالب الأحكام ; إذ يقال مثلا : وجوب النية في الطهارة حكم ثبت
بالمقتضى , وهو تمييز العبادة عن العادة , ويقول الحنفي : عدم وجوبها , والاقتصار على مسنونيتها : حكم ثبت بالمقتضي . وهو أن الوضوء مفتاح الصلاة . وذلك متحقق بدون النية . ونحو ذلك .
واعلم أن المطلوب في فن الخلاف : إما إثبات الحكم , فهو بالدليل المثبت , أو نفيه فهو بالدليل النافي . أو بانتفاء الدليل المثبت , أو بوجود المانع , أو بانتفاء الشرط . فهذه أربع قواعد ضابطة لمجاري الكلام على تعدد جريانها وكثرة مسائلها .
وخرج بقيد " الأدلة التفصيلية " علم المقلد ; لأن معرفته ببعض الأحكام e]ص: 13 ] ليست عن دليل أصلا , لا إجمالي ولا تفصيلي .
ولما فرغ من الكلام على تعريف أصول الفقه من حيث معناه . الإضافي : شرع في تعريفه من حيث كونه علما , فقال : ( وأصول الفقه علما ) أي : من حيث كونها صارت لقبا لهذا العلم ( القواعد التي يتوصل ) أي يقصد الوصول ( بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية ) وقيل : مجموع طرق الفقه إجمالا , وكيفية الاستفادة منها , وحال المستفيد . وقيل : معرفة دلائل الفقه إجمالا , وكيفية الاستفادة منها , وحال المستفيد . وقيل : ما تبنى عليه مسائل الفقه , وتعلم أحكامها به . وقيل : هي أدلته الكلية التي تفيده بالنظر على وجه كلي .
إذا علمت ذلك . فالقواعد : جمع قاعدة . وهي هنا عبارة عن صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها . ولذلك لم يحتج إلى تقييدها بالكلية ; لأنها لا تكون إلا كذلك . وذلك كقولنا : حقوق العقد تتعلق بالموكل دون الوكيل . وكقولنا : الحيل في الشرع باطلة . فكل واحدة من هاتين القضيتين يتعرف بالنظر فيها قضايا متعددة . فمما يتعرف بالنظر في القضية الأولى : أن عهدة المشتري على الموكل دون الوكيل , وأن من حلف لا يفعل شيئا , فوكل من فعله : حنث . وأنه لو وكل مسلم ذميا في شراء خمر أو خنزير : لم يصح . ومما يتعرف بالنظر في القضية الثانية : عدم صحة نكاح المحلل , وبيع العينة , وعدم سقوط الشفعة بالحيلة على إبطالها , وعدم حل الخمر بتخليلها علاجا . وكذا قولنا - وهو المراد هنا - الأمر للوجوب والفور ونحو ذلك .
واحترز بقوله " إلى استنباط الأحكام " عن القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط غير الأحكام , من الصنائع والعلم بالهيئات والصفات .
وبالشرعية عن الاصطلاحية والعقلية . كقواعد علم الحساب والهندسة , وبالفرعية عن الأحكام التي تكون من جنس الأصول , كمعرفة وجوب e]ص: 14 ] التوحيد من أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ( { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ) .
( والأصولي ) في عرف أهل هذا الفن : ( من عرفها ) أي عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية . لأنه منسوب إلى الأصول كنسبة الأنصاري إلى الأنصار ونحوه , ولا تصح النسبة إلا مع قيام معرفته بها وإتقانه لها , كما أن من أتقن الفقه يسمى فقيها , ومن أتقن الطب يسمى طبيبا ونحو ذلك .